إنَّ مفهوم المناطقية الذي كان في الماضي مرتبطًا بالانتماء والانتساب إلى المنطقة التي ولد فيها أو عاش فيها أو رُزقَ فيها ، أرتبط اليوم بتحقيق الذات ،فأصبح الاستثمار في الذات هو مشروع الفرد الوحيد ،ومن هنا نشأ التفكير الاستهلاكي المجرد من التكاتف الاجتماعي والشعور بالمسؤولية الجماعية ، الذي يعزز الوجود الإنساني المشترك بين الأفراد ، وهذا الاستهلاك الفردي لا يولد إلا الأنانية المشتركة بين الأفراد التي تنخر في عقولِ وصدورِ أجيالٍ يُسقون من كأسٍ سامٍ منذ الولادة .
أصبحنا نعيش في مجتمع مناطقي مًسيس ، ومن المُحتَّم أنْ يؤثرَ هذا السلوك المناطقي على كل وجوه الحياة ، فجميعنا يعيش تحت ضغط الاستهلاك المناطقي ، وبذلك صرنا سلعًا في أسواق المناطقيين الذين لا يفقهون من العيش إلا أرذلة وأحقره .
إنَّ سيادة المجتمع المناطقي قد يؤدي إلى ذبول التكافل الإنساني في المجتمعات ،واضمحلال قيم التراحم والتشارك المجتمعي .
فالمناطقية أصبحت تحديًا أخلاقيًا وسلوكًا ،يجب الوقوف أمامه ـوتخليص العامة من العقول الفارغة والتافهة التي لا مكان لها اليوم في عالم الحداثة .
لقد شارك ضِعاف النفوس ، وأرباب العقول الفارغة والقلوب السوداء على توسيع الفكر المناطقي وتشجيعه لإرواء عطشهم المادي ، ونيل أغراضهم الشخصية من الجاه والمنصب ،
و الكارثة انَّ المناطقية تُحِّكم علينا أنْ نضعَ المفسدين والمتسلقين في مواقع صنع القرار ؛ ليعبثون في الأرض فسادًا ، ويزيدون الطين بلةً ، بل ويعيشون في وهمٍ بأنَّهم يمثلون ضمير مجتمعاتهم وعقلها المفكر وحَارس وعيها ،ويدَّعون قود مجتمعاتهم على دروب الحرية ومعارج التقدُّم ، ولا عجب ،فمن يغرق في أوهامه ، ينفي نفسه عن العالم ، ومن يقع أسير أفكاره ، تحاصره الوقائع ، هذا دأبُ الذين قدَّسوا المناطقية سلوكًا وفكرًا وعملًا .
إنَّ مشكلة المناطقي هي في أفكاره لا في المكان ، وأنَّ مأزقه يكمن في مناطقيته الذاتية المتسلطة عليه ،والتي يشعر من خلالها بأحقيته في الاستحواذ والسيطرة والتملك ، وأنَّه لا مكان للآخر في هذا المكان الذي رسم له حدودًا ضيقةً في عقله الصغير ، كما أنَّه لا يعترف بأحقية الآخرين في العيش ، ولا يذكرُ جميلًا أو معروفًا لمناطق أخرى خدمته ووفرت له الحماية وسبل العيش الكريم .
لقد غَدتْ المناطقيَّة فكرًا وسلوكًا كسُمٍ ينخرُ في عقول الأجيال و أخلاقهم ، وباعتبار أنَّ الإنسانَ كائنٌ مِيزَتْه أنْ يفكرَ ،فإنَّ عملَ الفكرِ سلاحٌ ذو حدين ، قد يكون أداة كشف وتنوير وتطوير ، وقد يكون أداة حجب وتضليل وتخلف ، وهذا الأمر الأخير ،هو الأداة التي سيطرت على أجيال اليوم والتي سيرضع منها أجيال المستقبل .
فأيِّ مجتمع اليوم ننشد ، وأي بلد نحلم أن يرتقي ، وأي جيل نتكئ عليه ،وقد عَصفتْ به رياحُ التخلف وأبعدته مسافات طويلة عن الحضارة والحداثة ، واستؤصِلتْ منه القيم والمبادئ والثوابت وحرية العيش في مجتمع يسوده رابط الإخاء والفكر المنير .