كتب : د.علي صالح الربيزي
في تاريخ أمتنا الإسلامية صفحات ناصعة تُخلّد مواقف عز وفخار، حيث كانت صرخة امرأة واحدة كفيلة بأن تُحرّك جيوشًا وتزلزل عروشًا، فقط لأنها قالت: "وامعتصماه". فهبّ لها المعتصم بالله، الخليفة العباسي، بجيش لا يُعدّ ولا يُحصى، لا يسأل عن اسمها أو نسبها أو بلدها، فقط لأنها مسلمة، استنجدت فاستُجيب لها، واستُصرخت فكان الردّ فعلًا لا قولًا.
واليوم، بعد قرون من ذلك الموقف الخالد، لا تخرج امرأة واحدة فحسب، بل خرجت آلاف النساء الجنوبيات، خرجت الأمهات الحرائر، خرجن لا طلبًا للترف ولا بحثًا عن رفاهية، وإنما خرجن ليطالبن بحقوق العيش الكريم، بحقهن في الراتب والماء النظيف والكهرباء والعلاج والتعليم. خرجن يرفعن أصواتهن في وجه الإهمال، في وجه الظلم، في وجه الفساد الذي التهم خيرات هذا الوطن.
لكنهن لم يجدن معتصمًا لهذا الزمن، لم يجدن قائدًا يغضب لكرامتهن، لم يجدن من يردّ صوتهن إلا صدىً حزينًا يعود إليهن. فأين ضمير الحاكم؟ أين نخوة المسؤول؟ أين غيرة الرجال؟ وأين عدل الإسلام الذي أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الظلم والجور؟
إن ما تطالب به هذه النسوة ليس تفضّلاً من أحد، وليس مِنّة من مسؤول، بل هي حقوق شرعها الله لعباده، وكرامة كتبها الإسلام للإنسان، ذكرًا كان أو أنثى. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، فأين أنتم من هذه المسؤولية؟!
إن هؤلاء النسوة لا يرفعن فقط أصوات الجياع، بل يرفعن صوت الأمة كلها، في وجه واقع مرير تُسلَب فيه الحقوق، ويُهان فيه الإنسان، ويُترك فيه الشعب يواجه الجوع والمرض والظلام. فما قيمة حكم لا يوفّر أدنى مقومات الحياة؟ وما معنى سلطة تُفقد الناس ماءهم ودواءهم وتعليم أبنائهم؟! وأي ملة تلك التي تسكت عن الظلم وتغضّ الطرف عن معاناة الأبرياء؟!
ألا فليعلم كل من في موقع مسؤولية، أن الظلم ظلمات، وأن دعوة المظلوم مستجابة، ولو كانت من فقير معدم أو أم ثكلى أو امرأة تبكي قهرًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".
نعم، إننا نعيش في زمن ضاعت فيه كثير من القيم، وتلاشت فيه معاني الإنصاف، لكن صوت الأحرار لا يموت، وصرخة المظلوم لن تخبو. ولن تموت أمة تنجب نساءً خرجن يطالبن بالحق، ويحمين الأرض والعِرض بصبرهن وثباتهن.
فيا أيها القاعدين على عروش الحكم، قولوا لنا: أين المعتصم في هذا الزمن؟ وأين صوت العدل في زمن كثر فيه الظلم وساد فيه الصمت؟! وقبل أن تُطفأ الأرواح كما تُطفأ الكهرباء، وتُقبر الأحياء كما تُقبر المياه، تذكّروا أن الأمة التي تنسى صرخة نسائها، لن تجد من يصون مستقبلها.
اللهم احفظ نساء الجنوب، وامنحهن نصرًا بعد صبر، وعدلاً بعد جور، وأملاً بعد وجع.