في مشهد بات مألوفًا حد الفاجعة في شوارع مدينة تعز، لا تمر دقيقة دون أن يقترب منك طفل صغير يحمل مناديل أو زجاجة ماء، بعينين تتوسلان الشراء، وبصوت مكسور يسأل: "تشتري مني؟"
لكن خلف هذه البراءة المتكسرة تختبئ مأساة مركبة، لا تبدأ بالفقر ولا تنتهي عند التسوّل، بل تصل إلى مستوى جريمة مُنظمة تُرتكب بحق الطفولة برعاية الأُسر نفسها وتواطؤ الجهات المعنية.
المؤلم في الأمر أن كثيرًا من هؤلاء الأطفال لا يفتقدون أسرة أو معيلًا، بل يتم إجبارهم يوميًا من قبل ذويهم على العمل في الشوارع تحت غطاء "البيع"، بينما الهدف الحقيقي هو التسوّل أو جمع أموال يذهب أغلبها لشراء القات.
يقول هيثم، طفل في التاسعة من عمره، بملابس مدرسية متسخة ووجه غطته ملامح التعب:
"أبي يخرجني ثلاث مرات بالأسبوع أبيع مناديل الصباح، وبعد الظهر أجيب له كيس قات مليان."
ثم يضحك ويسأل مراسِلنا إن كان سيشتري منه قبل أن يُكمل الحديث قائلاً: "بقية الأيام يخرج أخي الأكبر، أما أنا أحاول أخلّص البيع بدري عشان أكتب الدروس اللي فاتتني."
ما قاله هيثم ليس سوى غيض من فيض. شيماء، طفلة في عمر الزهور، تقول إنها طُردت من المدرسة بأمر والدها الذي أخبرها: "البنت مالهاش في الدراسة... خليها تفيد أبوها أحسن."
ويؤكد الناشط المجتمعي "المحمودي" أن هذه الظاهرة لم تعد ظاهرة فقر فقط، بل تحوّلت إلى ثقافة استغلال قذرة، تُمارسها أسر كاملة بحق أطفالها من أجل الكسب أو تغطية نفقات القات.
أما الأخطر من كل ذلك، فهو ما كشفه نشطاء ميدانيون عن وجود شبكات صغيرة تستغل الأطفال تجاريًا، حيث يقوم أحد الأشخاص بتجميع عدد من الأطفال صباحًا، ونشرهم في مناطق معينة، ثم إعادتهم في المساء لجمع الأموال منهم.
ويقول أحد المراقبين: "سألنا بعض الأطفال عن هذه الشبكات فهربوا فورًا... الخوف في عيونهم وحده يفضح كل شيء!".
انتهاك صريح للقانون والدستور
بحسب الدستور اليمني، يُعد تشغيل من هم دون الرابعة عشرة جرمًا يعاقب عليه القانون، لكن هذه النصوص بلا مخالب، ومع غياب الرقابة وتفشي الفساد، تُنتهك كرامة الأطفال يوميًا دون حسيب أو رقيب.
ويُعلق الناشط السياسي الدكتور أنور الشرعبي بالقول:
"الآباء يدفعون أطفالهم للتسول لجمع ثمن القات، الذي دمّر نسيج الأسرة والمجتمع."
المستشار الاجتماعي أحمد الصبري يضيف: "بعض الآباء يهددون أبناءهم بالضرب إن عادوا بأكياس غير ممتلئة من المناديل أو القات، ويُرسلونهم مباشرة إلى دكاكين القات بدلًا من المدارس."
أثر كارثي يدمر مستقبل جيل كامل
النتائج؟ أطفال مشردون، ضائعون، غير متعلمين، عُرضة للاستغلال الجسدي والجنسي، محطمون نفسيًا واجتماعيًا.
الجهات الرسمية غائبة، المنظمات المعنية بشؤون الطفولة مشلولة، والحلول موجودة لكنها تنتظر من يملك الإرادة لتنفيذها.
فالطفل مكانه المدرسة أو الورشة المهنية، لا الأرصفة ولا أبواب السيارات.
هل من يسمع؟!
هذا النداء ليس الأول، ولن يكون الأخير. لكن هل هناك من يسمع؟ هل هناك من يبكي على جرح الطفولة في تعز؟
أم أن منادتنا ستُقابل كما في كل مرة بالصمت والتجاهل؟